الأمة العربية أمة فريدة بين سائر أمم الحضارة قاطبة، أمة الوحيدة التي نشأت بالكلمة وعاشت على الكلمة أكانت كلمة القرآن مسك الختام ومعجزة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم.
واللغة العربية قبل الإسلام كانت لغةً تدعم حضارة الأمة العربية قبل الإسلام بأمرين اثنين:
أولها: أن العرب لم يجعلوا بينهم وبين أمم الحضارة في ذلك الوقت ستارا كثيفا يحجب عنهم ثقافتها وعلومها وما كانت عليه من أديان تهتدي بها وتتعبد بشرعتها بالحضارة الفارسية في الشمال الشرقي واتصلوا الرومانية في الشمال الغربي، وذلك لأن أحاط بعلم العرب واخبار أهل الكتاب وكذلك وجاور الأعاجم علم اخبارهم وأيام حميد والشام خبر أخبار الروم وبني إسرائيل واليونان والبحرين وعمان اتته أخبار السند وفارس.
من اليمين علم اخبار الأمم جميعا، أن وسائل الاتصال العرب بمن جاورهم من كانت ثلاث وسائل.
1 – التجارة إلى الشمام شمالا وإلى اليمن جنوبا وما للتجارة من آثار بينة في نقل كثير من العادات والتقاليد والطرف والأخبار وما يتعلق بها من الفاظ ثم تصحيف تلك الألفاظ المتجددة النامية بما يتلاءم وطبقة النطق العربي.
2 – ما نشأ من مدن عربية متاخمة لحدود الفرس والروم ففي هذه المدن كانت تلتقي العقلية العربية والعقلية الفارسية والعقلية الرومية مما أحدث تطورا في الفكر العربي وذخيرة اللغة العربية.
3 – تدفق الموجات اليهودية والنصرانية وتغلغلها في شبه الجزيرة العربية تدعو كل منها إلى دينها.
واللغة العربية قبل الإسلام كانت تنقسم إلى قسمين: احداهما في الشمال وكان يتكلم بها عديد من العشائر العربية التي استقرت بشمال الحجاز ملاصقة للرومان وتسمى (العربية البائدة) وهذه اللغة لم يكتب لها البقاء فقد بادت واندثرت ولم تعمر طويلا.
أما القسم الثاني فهو (العربية الباقية) وموطنها نجد والحجاز وهي ما يسمى اصطلاحا بالأدب الجاهلي وشبه الجزيرة العربية كانت تتكلم لغة واحدة ذات لهجات متعددة لان اللهجة لا تزيد عن كونها طريقا في النطق وإخراج الأصوات وتفضيل بعض قواعد البناء اللغوي فتتمايز القبائل وتختلف تبعا لذلك.
إلا أن هناك لهجة بين تلك اللهجات كان لها النفوذ والسيطرة عليها جميعا وكان لها من علو المقام وسمو الرقبة ما جعل جميع العرب يرددونها إنها لجهة قريش وتوافرت لهذه اللهجة عدة عوامل، لم تتوافر للهجة أخرى في قبائل العرب، منها أن قريشا كانت تقوم بسدانة البيت الحرام وتقوم على شعائره.
ومنها: أن قريشا تعمل بالتجارة ويستدل بعض اللغويين على ذلك من اسمها نفسه.
ففي لسان العرب: وقيل سميت قريشا لأنهم كانوا اهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع من قولهم فلان المال أي يجمعه، وكان لقريش النصيب الأوفر في التجارة من بين القبائل العربية وخاصة في ارض الحبشة وصارت إليها الزعامة والقدرة التي تمكنها من التحكم في اجتلاب السلع وإشاعة الرخاء أو إشاعة العسر.
ولهذه المكانة الدينية والاقتصادية استطاعت قريش أن العرب وتملك الأمر بيدها فسادت لهجتها على جميع لهجات العرب.
يضاف إلى ذلك في تطور اللغة العربية عموما تكل الأسواق التي كان العرب يقيمونها طوال شهور السنة ليس فقط للتجارة بل للمباراة والتنافس في الأدب كذلك.
وهي اشبه بالمهرجانات الأدبية التي يتبارى فيها الشعراء والخطباء وأشهر هذه الأسواق عكاظ في شهر ذي القعدة، ثم يرتحلون إلى ذي المحبة قرب مكة ثم يتخذون سبيلهم إلى ذي المجاز بجانب عرفه في أول ذي الحجة.
واستفادت اللغة العربية استفادة كبيرة من الخصائص الحضرية والبدوية في الجزيرة العربية، فقد استفادت من دول الحضارة ألفاظا وأفكارا وتوسعة خيال واستقت من البادية البلاغة والفصاحة واستقرت قواعدها الاصيلة وكذلك أحرفها ذات الميزات الصوتية التي لا تتوافر في اللغات الأخرى.
لقد أراد بعض المستشرقين أن يشكك في كون اللغة العربية هي أداة التعبير الوحيدة عن الرسالة العالمية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبعا لذلك فلا يفرض على الإنسان أن يدين بدين محمد وهذا التشكيك يهدف إلى أحداث انشقاق بين الامة العربية والأمم الإسلامية التي لا تتكلم العربية، ويهدف كذلك إلى أغلاق الطريق أمام الدعوة الإسلامية في العالم وقصرها على العرب فقط.
وحجة المستشرقين في ذلك كما يقولون هي قول الله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم).
ومثل هذا التشكيك رد عليه الإمام القرطبي في تفسير الجامع لأحكام القرآن الكريم في قوله “ولا حجة للعجم في هذه الآية لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمه يفهمها لزمته الحجة”.
واستشهد لهذا الرأي بقوله تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) كما استشهد بقوله صلى الله عليه وسلم “ارسل كل نبي إلى أمته بلسانها وأرسلني الله إلى كل أحمر وأسود من خلقه”.
وبما خطر لبعض المستشرقين الذين يكيدون للإسلام أن نزول القرآن باللغة العربية ثم الحض على التمسك بلغة القرآن هو العصبية نفسها.
والتعصب حاربه الإسلام لأن التعصب يضل ولا يهدي ويفسد الحياة على الناس من أجل فئة، والتعصب عزلة وجفاء وقطع ما بين الإنسان والإنسان من أسباب الحياة.
وهذه الدعوة من قبلهم لا تستقيم مع دعوة الإسلام الناس كافة، ولا تستقيم مع منهج القرآن الكريم الذي جعل من اختلاف اللغات شواهد جلية على وحدانية سبحانه وتعالى، يقول تعالى في سورة الروم (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين).
وضرب بعض من تصدى لهذا التشكيك مثلا جيدا لاختيار اللغة للجميع يقول لو أن هناك مجموعة من الجيوش من أجناس مختلفة ولغات متعددة تشترك في حرب واحدة، فمنطق الحرب يحتم على قيادتها العامة أن تختار لغة واحدة تتفاهم بها فيما بينها، ويغلب أن تكون هذه اللغة المختارة هي لغة القادة الذين أخذوا على عاتقهم المهمة الكبرى في الحرب، ولا يثير هذا العمل نفور القيادات الأخرى فلا عصبية هنا ولا تعصب إنما يكون الوعي بأهمية اللغة الواحدة والوعي بخطورة المصير لو أنتهى الأمر إلى التنازع والشقاق.
ومن العظمة التي تلزم الفكر بالإقرار طاعة وتسليما أن القرآن وقد نزل بلغة واحدة اصطفاها الله تعالى قد دعا إلى إنسانية واحدة لا تعرف غير رب واحد، رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن الرحيم.
وللقرآن الكريم أبلغ الأثر في لغة العرب، فقد صقلها، وقوم الأساليب طبع ألسنة العرب بطابع جديد.
ومن ذلك ما يلي:
أولا: طبع القرآن الكريم على اللغة جمالا، وحسن وجلالا ووقارا باعتبارها لغة التعبد لله، وهجر اللفظ الوحش والتنافر.
ثانيا: جمع العرب على لهجة واحدة بعد طول فرقة بين اللهجات ووحدت رايته فطرهم اللغوية.
3 – اكسب القرآن الكريم الشعراء والخطباء والكتاب أساليب جديدة وأنواعا من القول فريدة فنهجوا نهجه ونسجوا على منواله.
ومثال ذلك قول الله تعالى (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) فيقول حسان بن ثابت شاعر الرسول:
عزيز عليه أن يحيدوا عن الهدى حريص على ان يستقيموا ويهتدوا
ويقول الله تعالى (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)، فسمع ذلك الحطيئة الشاعر وكان حافيا غليظا لم يخالط الإسلام بشاشة قلبه لكنه وضع نصب عينيه سلامة الفكر ونصاعة المسلك في ادب القرآن الكريم فيقول:
ولست أرى السعادة جمع مال
ولكن التقى هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا
وعند الله للأتقى مزيد
جاء القرآن الكريم (تنزيل من حكيم حميد) ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث طويل “فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل”.
وقال عنه أل خصومه: الوليد بن المغيرة: “إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه يعلو وما يعلى عليه”.
وفي نفحات من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد المسلمين حبا لقرآنهم وحبا للغتهم وصونا لها وبسطا لظلها، يقول صلى الله عليه وسلم “إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته”، وقد تعودنا أن نسمع كلمة المأدبة وهي تعني الحافلة بالطعام الشهي المختلف الألوان والمذاقات فهي تفوح بالروائح التي تستثير المعدة وتدل كذلك على السخاء وكرم العطاء فإذا شبه صلوات الله وسلامه عليه القرآن بالمأدبة فكانه قد قال بأن القرآن حافل بكل ما تصبوا إليه النفوس من آداب الحياة وبكل ما تجاهد من أجله الأفكار لإصلاح دوائر الحياة فمن أراد أن يؤكد هذه المعاني النفسية والاجتماعية فليسارع إلى مأدبة الله ففيها الشبع والرقي وفيها التربية والتعليم والقدرة.
لقد جاء القرآن بعربية بينة فيجب أن تكون قراءته جلية بينة يجب أن تكون ترتيلا بعض الحرف حقه والكلمة حقها من الانفصال والاتصال والمد والاشباع، وكل هذا يؤدي إلى أن تبقى ألفاظ اللغة نقية خالصة في قوية ثابتة في قوتها لا تنال منها المؤثرات البيئية والحضارية التي تطبع بعضا من آثارها على الألسن قال تعالى (ورتل القرآن ترتيلا).